فصل: تفسير الآيات رقم (38- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يولج‏}‏ معناه يدخل، وهذه عبارة عن أن ما نقص من ‏{‏الليل‏}‏ زاد ‏{‏في النهار‏}‏، فكأنه دخل فيه، وكذلك ما نقص من ‏{‏النهار‏}‏ يدخل ‏{‏في الليل‏}‏ والألف واللام في ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ هي للعهد، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف وهذا أصوب، و«الأجل المسمى» هو قيام الساعة، وقيل آماد الليل وآماد النهار، ف «أجل» على هذا اسم جنس، وقرأ جمهور الناس «تدعون» بالتاء، وقرأ الحسن ويعقوب «يدعون» بالياء من تحت، و«القطمير» القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس الحجة، وقال جوبير عن رجاله «القطمير» القمع الذي في رأس التمرة، وقاله الضحاك والأول أشهر وأصوب، ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها،‏:‏ أولها أنها لاتسمع إن دعيت، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وقوله ‏{‏يكفرون‏}‏ يحتمل ان يكون بكلام، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها ويخلق لها إدراكاً يقتضيها، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وقفت على ربع لمية ناطق *** يخاطبني آثاره وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** تكلمني أحجاره وملاعبه

وهذا كثير، وقوله ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ قال المفسرون قتادة وغيره «الخبير» هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ من تمام ذكر الأصنام، كأنه قال‏:‏ ولا يخبرك مثل من يخبر عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له، كأنه قال ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

هذه آية موعظة وتذكير، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها لا يستغني عنه طرفة عين، وهو به مستغن عن كل واحد، والله تعالى غني عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته غني على الإطلاق، و‏{‏الحميد‏}‏ المحمود بالإطلاق، وقوله تعالى ‏{‏بعزيز‏}‏ أي بممتنع، و‏{‏تزر‏}‏ معناه تحمل، والوزر الثقل، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب، وهذا هو المعنى في قوله تعالى ‏{‏وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏ لأنهم أغووهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده» وأنثت ‏{‏وازرة‏}‏ لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت ‏{‏مثقلة‏}‏، و«الحمل» ما كان على الظهر في الأجرام، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها، فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر، كما يجعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد، واسم ‏{‏كان‏}‏ مضمر تقديره ولو كان الداعي، ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذي يمنحون العلم، أي إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه، وقوله ‏{‏بالغيب‏}‏ أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيهاً عليها وتشريفاً لها، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية، وقرأ طلحة «ومن أزكى فإنما يزكي»، ثم توعد بعد ذلك بقوله ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 26‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

مضمن هذه الآية طعن على الكفرة وتمثيل لهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بآرائهم بالبصراء والأنوار، وقوله ‏{‏ولا النور‏}‏ ودخول ‏{‏لا‏}‏ فيها وفيما بعدها إنما هو على نية التكرار كأنه قال ‏{‏ولا الظلمات‏}‏ والنور، ‏{‏ولا النور‏}‏ ولا الظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الآية على متروكه، و‏{‏الحرور‏}‏ شدة حر الشمس، وقال رؤبة بن العجاج ‏{‏الحرور‏}‏ بالليل والسموم بالنهار، وليس كما قال وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره أن السموم يختص بالنهار و‏{‏الحرور‏}‏ يقال في حر الليل وفي حر النهار، وتأول قوم ‏{‏الظل‏}‏ في هذه الآية الجنة، و‏{‏الحرور‏}‏ جهنم، وشبه المؤمنين ب ‏{‏الأحياء‏}‏ والكفرة ب ‏{‏الأموات‏}‏ من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله تعالى بقوله ‏{‏إن الله يسمع من يشاء‏}‏، وقوله ‏{‏وما أنت بمسمع من في القبور‏}‏ تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في القليب ليوبخهم، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم»، وأما عائشة فمذهبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة، وجعلت هذه الآية أصلاً واحتجت بها، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي في القبور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بمسمع من» على الإضافة، ثم سلاه بقوله ‏{‏إن أنت إلا نذير‏}‏ أي ليس عليك غير ذلك، والهداية والإضلال إلى الله تعالى و‏{‏بشيراً‏}‏ معناه بالنعيم الدائم لمن آمن، ‏{‏ونذيراً‏}‏ معناه بالعذاب الأليم لمن كفر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ معناه ان دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذير، معناه نذير مباشر، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله، ثم سلى نبيه بما سلف من الأمم لأنبيائهم، و‏{‏البينات والزبر والكتاب المنير‏}‏ شيء واحد، لكنه أكد أوصافه بعضها ببعض وذكره بجهاته و‏{‏الزبر‏}‏ من زبرت الكتاب إذا كتبته، ثم توعد قريشاً بذكره أخذ الأمم الكافرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

الرؤية في قوله ‏{‏ألم تر‏}‏ رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، و‏{‏إن‏}‏ سادت مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب سيبويه لأن ‏{‏أن‏}‏ جملة مع ما دخلت عليه، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي ‏{‏أن‏}‏ ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء‏}‏ حقاً، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة، وقوله ‏{‏ألوانها‏}‏ يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً، و‏{‏جدد‏}‏ جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً، ومنه قول امرئ القيس‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

كأنّ سراته وحدَّة متنه *** كنائن يحوي فوقهن دليص

وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال ‏{‏جدد‏}‏ في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ الزهري «جَدد» بفتح الجيم، وقوله ‏{‏وغرابيب سود‏}‏ لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو، وقوله ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره ‏{‏والأنعام‏}‏ خلق ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏، ‏{‏والدواب‏}‏ يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهاً منهما، وقوله ‏{‏كذلك‏}‏ يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسناً، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله، ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأس الحكمة مخافة الله»، فهذا هو الكلام المنير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علماً، وقال مسروق وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أعلمكم بالله أشدكم له خشية»، وقال الربيع بن أنس‏:‏ من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية الله علماً وبالاغترار، به جهلاً، وقال مجاهد والشعبي‏:‏ إنما العالم من يخشى الله، وإنما في هذه الآية تخصيص ‏{‏العلماء‏}‏ لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة، وإذا قلت إنما الله إله واحد، بان لك فتأمله، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن ‏{‏يتلون‏}‏ يمعنى يقرؤون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية، وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، و‏{‏كتاب الله‏}‏ هو القرآن، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض، و‏{‏يرجون‏}‏ جملة في موضع خبر ‏{‏إن‏}‏، و‏{‏تبور‏}‏ معناه تكسد ويتعذر ربحها، ويقال تعوذوا بالله من بوار الأيم، واللام في قوله ‏{‏ليوفيهم‏}‏ متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا تبور، أو فعلوا ذلك كله، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات، وقوله ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ قالت فرقة‏:‏ هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة، وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة، وقالت فرقة‏:‏ إن التضعيف داخل في توفيه الأجور، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا الحسنى وزيادة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏ و‏{‏غفور‏}‏ معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها، و‏{‏شكور‏}‏ معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده، ثم ثبت تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏والذي أوحينا إليك من الكتاب‏}‏ الآية، و‏{‏مصدقاً‏}‏ حال مؤكدة، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بعباده لخبير بصير‏}‏، وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏أورثنا‏}‏ معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق، والميراث حقيقة أو مجازاً إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر، و‏{‏الكتاب‏}‏ هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة، قبله، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها، و‏{‏الذين اصطفينا‏}‏ يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وغيره، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأول لم يورثوه، و‏{‏اصطفينا‏}‏ معناه اخترنا وفضلنا، و«العباد» عام في جميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، واختلف الناس في عود الضمير من قوله ‏{‏فمنهم‏}‏ فقال ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على ‏{‏الذين‏}‏ والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ف «الظالم لنفسه» العاصي المسرف، و«المقتصد» متقي الكبائر والجمهور من الأمة، و«السابق» المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري، والضمير في ‏{‏يدخلونها‏}‏ عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة‏:‏ دخلوا الجنة كلهم، وقال كعب الأحبار‏:‏ استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم، وفي رواية تحاكت مناكبهم، وقال أبو إسحاق السبيعي‏:‏ أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج، وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ هذه الأمة يوم القيامة أثلاث، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة‏:‏ هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل‏:‏ أدخلوهم في سعة رحمتي، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي‏:‏ «السابق» من أسلم قبل الهجرة، و«المقتصد» من أسلم بعدها، و«الظالم» نحن، وقال الحسن‏:‏ «السابق» من رجحت حسناته، و«المقتصد» من استوت سيئاته و«الظالم» من خفت موازينه، وقال سهل بن عبد الله‏:‏ «السابق» العالم، و«المقتصد» المتعلم، و«الظالم» الجاهل، وقال ذو النون المصري، «الظالم» الذاكر لله بلسانه فقط و«المقتصد» الذاكر بقلبه و«السابق» الذي لا ينساه، وقال الأنطاكي‏:‏ «الظالم» صاحب الأقوال، و«المقتصد» صاحب الأفعال، و«السابق» صاحب الأحوال، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال‏:‏

«كلهم في الجنة»، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له»، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أراد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين، وقال عثمان بن عفان‏:‏ سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جماعة ولا جمعة، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في ‏{‏منهم‏}‏ عائد على العباد و«الظالم لنفسه» الكافر والمنافق و«المقتصد» المؤمن العاصي و«السابق» التقي على الإطلاق، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة ‏{‏وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 12‏]‏ والضمير في قوله ‏{‏يدخلونها‏}‏ على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق الفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول، وروي هذا القول عن ابن عباس، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الأمور أوساطها»، وقالت فرقة لا معنى لقولها إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين اصطفيناهم‏}‏ الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول مردود من غير ما وجه، وقرأ جمهور الناس «سابق بالخيرات»، وقرأ أبو عمرو الجوني «سباق بالخيرات»، و‏{‏بإذن الله‏}‏ معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏ إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة، وقال الطبري‏:‏ السبق بالخيرات هو ‏{‏الفضل الكبير‏}‏، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان، وقرأ جمهور الناس «جناتُ» بالرفع على البدل من ‏{‏الفضل‏}‏ وقرأ الجحدري «جناتِ» بالنصب بفعل مضمر يفسره ‏{‏يدخلونها‏}‏ وقرأ زر بن حبيش «جنة عدن» على الإفراد، وقرأ أبو عمرو وحده «يُدخَلونها» بضم الياء وفتح الخاء، ورويت عن ابن كثير، وقرأ الباقون «يَدخُلونها» بفتح الياء وضم الخاء، و‏{‏أساور‏}‏ جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويقال سُوار بضم السين، وفي حرف أبي أساوير، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس، ويحلون معناه رجلاً ونساء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع «ولؤلؤاً» بالنصب عطفاً على ‏{‏أساور‏}‏، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و«لوْلؤاً» بسكون الواو الأولى دون همز، وبهمز الثانية، وروي عنه ضد هذا همز الأولى، ولا يهمز الثانية، وقرأ الباقون «لؤلؤٍ» بالهمز وبالخفض عطفاً على ‏{‏أساور‏}‏، و‏{‏الحزن‏}‏ في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان، وخصص المفسرون في هذا الموضع فقال أبو الدرداء‏:‏ حزن أهوال القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من الغم والحزن، وقال ابن عباس‏:‏ حزن جهنم، وقال عطية‏:‏ حزن الموت، وقال شهر‏:‏ حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه، وقال قتادة‏:‏ حزن الدنيا في الخوف أن تتقبل أعمالهم، وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن‏.‏ قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان، لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم، وقولهم ‏{‏لغفور شكور‏}‏ وصفوه تعالى بأنه يغفر الذنوب ويجازي على القليل من الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب، وهذا هو شكره لا رب سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏المقامة‏}‏ الإقامة، وهو من أقام، و«المَقامة» بفتح الميم القيام وهو من قام، و‏{‏دار المقامة‏}‏ الجنة، و«النصب» تعب البدن، و«اللغوب» تعب النفس اللازم عن تعب البدن، وقال قتادة «اللغوب» الوجع، وقرأ الجمهور «لُغوب» بضم اللام، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي «لَغوب» بفتح اللام أي شيء يعيينا، ويحتمل أن يكون مصدراً كالولوع والوضوء، ثم أخبر عن حال ‏{‏الذين كفروا‏}‏ معادلاً بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى، وهذا يؤيد تأويل من قبل إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء ها هنا، وقوله ‏{‏لا يقضى‏}‏ معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا، وقرأ الحسن البصري والثقفي «فيموتون» ووجهها العطف على ‏{‏يقضى‏}‏ وهي قراءة ضعيفة، وقوله ‏{‏لا يخفف عنهم من عذابها‏}‏ لا يعارضه قوله ‏{‏كلما خبت زدناهم سعيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو ذلك، وقرأ جمهور القراء، «نجزي» بنصب «كلَّ» وبالنون في «نجزي»، وقرأ أبو عمرو ونافع «يُجزى» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول «كلُّ كفور» برفع «كلُّ»، و‏{‏يصطرخون‏}‏ يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون ‏{‏ربنا‏}‏ وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم ‏{‏أو لم نعمركم‏}‏ على جهة التوقيف والتوبيخ، و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏ما يتذكر‏}‏ ظرفية، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير، فقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ البلوغ، يريد أنه أول حال التذكير، وقال قتادة‏:‏ ثمان عشرة سنة، وقالت فرقة‏:‏ عشرون سنة، وحكى الزجاج‏:‏ سبع عشرة سنة، وقال ابن عباس‏:‏ أربعون سنة، وهذا قول حسن، ورويت فيه آثار، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح، وقال مسروق بن الأجدع‏:‏ من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ *** له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى *** وإن جر أسْباب الحياة له العمر

وقد قال قوم‏:‏ الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أخو الخمسين مجتمع أشدي *** ونجدني مداومة الشؤون

وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وإن امرأً قد سار خمسين حجة *** إلى منهل من ورده لقريب

وقال ابن عباس أيضاً وغيره‏:‏ الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار، وهذا أيضاً قول حسن متجه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين» وهو العمر الذي قال الله فيه ما يتذكر فيه من تذكر، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر»، وقرأ جمهور الناس «ما يتذكر فيه من تذكر»، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من أذكر»، و‏{‏النذير‏}‏ في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير العالم في غابر الزمان، وقال الطبري وقيل ‏{‏النذير‏}‏ الشيب وهذا قول حسن، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

هذا ابتداء تذكير بالله تعالى ودلالة على وحدانيته وصفاته التي لا تنبغي الألوهية إلا معها، و«الغيب»، ما غاب عن البشر و‏{‏ذات الصدور‏}‏ ما فيها من المعتقدات والمعاني ومنه قول أبي بكر‏:‏ ذو بطن بنت خارجة، ومنه قول العرب‏:‏ الذيب مغبوط بذي بطنه، أي بالنفخ الذي فيه فمن يراه يظنه شابعاً قريب عهد بأكل، و‏{‏خلائف‏}‏ جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن، وقوله ‏{‏فعليه كفره‏}‏ فيه حذف مضاف تقديره «فعليه وبال كفره وضرر كفره»، و«المقت» احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفاً منك فلا يسمى ذلك مقتاً، و«الخسار» مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم شركاءكم‏}‏ الآية احتجاج على الكفار في بطلان أمر أصنامهم، وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه على أصنامهم وطلب منهم أن يعرضوا عليه الشيء الذي خلقته آلهتهم لتقوم حجتهم التي يزعمونها، ثم وقفهم مع اتضاح عجزهم عن خلق شيء على السماوات هل لهم فيها شرك وظاهر أيضاً، بعد هذا ثم وقفهم هل عندهم كتاب من الله تعالى ليبين لهم فيه ما قالوه، أي ليس ذلك كله عندهم، ثم أضرب بعد هذا الجحد المقدر فقال‏:‏ بل إنما يعدون أنفسهم غروراً، و‏{‏أرأيتم‏}‏ يتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين، وأضاف الشركاء إليهم من حيث جعلوهم شركاء لله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولكم فالواجب أضافتها إليكم، و‏{‏تدعون‏}‏ معناه تعبدون، والرؤية في قوله ‏{‏أروني‏}‏ رؤية بصر، و«الشرك» الشركة مصدر أيضاً، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم «بينات» بالجمع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والأعمش وابن وثاب ونافع بخلاف عنه «بينة» بالإفراد والمراد به الجمع، ويحتمل أن يراد به الإفراد كما تقول‏:‏ أنا من هذا الأمر على واضحة أو على جلية، و«الغرور» الذي كانوا يتعاطونه قولهم إن الأصنام تقرب من الله زلفى ونحوه مما يغبطهم، ولما ذكر تعالى ما يبين فساد أمر الأصنام وقف على الحجة على بطلانها عقب ذلك بذكر عظمته وقدرته ليبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله تعالى، فأخبر عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة، وقوله ‏{‏أن تزولا‏}‏ معناه كراهة ‏{‏أن تزولا‏}‏، ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها، وقال بعض المفسرين معناه ‏{‏أن تزولا‏}‏ عن الدوران، ويظهر من قول عبد الله بن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب وذلك أن الطبري أسند أن جندباً الجبلي رحل إلى كعب الأحباري ثم رجع فقال له عبد الله بن مسعود‏:‏ حدثنا ما حدثك، فقال‏:‏ حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا، والقطب عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله بن مسعود‏:‏ لوددت أنك افتديت رحلته بمثل راحلتك ورحلك، ثم قال‏:‏ ما تمكنت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه، ثم قال‏:‏ ‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏ وكفى بها زوالاً أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت، وقوله ‏{‏ولئن زالتا‏}‏ قيل أراد يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فكأنه قال ولئن جاء وقت زوالهما، وقيل بل ذلك على جهة التوهم والفرض، ولئن فرضنا زوالهما فكأنه قال ولو زالتا، وقال بعضهم ‏{‏لئن‏}‏ في هذا الموضع بمعنى لو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قريب من الذي قبله، وقرأ ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقوله ‏{‏من بعده‏}‏ فيه حذف مضاف تقديره من بعد تركه الإمساك، وقالت فرقة‏:‏ اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول والأرض كذلك لإشراك الكفرة فيمسكهما الله حلماً منه عن المشركين وتربصاً ليغفر لمن آمن منهم، كما قال في آية أخرى ‏{‏تكاد السماوات يتفطرن‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏أقسموا‏}‏ لكفار قريش، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضاً وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء وهؤلاء، و‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ منصوب على المصدر، أي بغاية اجتهادهم، و‏{‏إحدى الأمم‏}‏ يريد اليهود والنصارى، و«النفور» البعد عن الشيء والفزع منه والاستبشاع له، و‏{‏استكباراً‏}‏ قيل فيه بدل من النفور، وقيل مفعول من أجله، أي نفروا من أجل الاستكبار، وأضاف «المكر» إلى ‏{‏السَّيِّئ‏}‏ وهو صفة كما قيل دار الآخرة، ومسجد الجامع، وجانب الغربي، وقرأ الجمهور بكسر الهمزة من «السَّيِّئ» وقرأ حمزة وحده «السَّيِّئ» بسكون الهمزة وهو في الثانية برفع الهمزة كالجماعة، ولحن هذه القراءة الزجاج ووجهها أبو علي الفارسي بوجوه منها أن يكون أسكن لتوالي الحركات كما قال‏:‏ «قلت صاحب قوم» على أن المبرد روى هذا قلت صاح، وكما امرؤ القيس‏:‏ ‏[‏السريع‏]‏

اليوم أشربْ غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

على أن المبرد قد رواه فاشرب وكما قال جرير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

سيروا بني العم فالأهواز منزلكم *** ونهر تيرى ولن تعرفْكم العَرب

وقرأ ابن مسعود «ومكراً سيئاً»، قال أبو الفتح‏:‏ يعضده تنكير ما قبله من قوله ‏{‏استكباراً‏}‏، و‏{‏يحيق‏}‏ معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه، وقوله ‏{‏إلا بأهله‏}‏، أي أنه لا بد أن يحيق بهم إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة فعاقبته الفاسدة لهم، وإن حاق في الدنيا بغيرهم أحياناً فعاقبة ذلك على أهله، وقال كعب لابن عباس‏:‏ إن في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، فقال ابن عباس‏:‏ أنا أوجدك هذا في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏}‏، و‏{‏ينظرون‏}‏ معناه ينتظرون، و«السنة» الطريقة والعادة، وقوله ‏{‏فلن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏ أي لتعذيبه الكفرة المكذبين، وفي هذا توعد بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها، و«يعجزه» معناه يفوته ويفلته، و‏{‏من‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ زائدة مؤكدة، و«عليم قدير» صفتان لائقتان بهذا الموضع، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء، ثم بين تعالى الوجه في إمهاله من أمهل من عباده أن ذلك إنما هو لأن الآخرة من وراء الجميع وفيها يستوفى جزاء كل أحد، ولو جازى عز وجل في الدنيا على الذنوب لأهلك الجميع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دابة‏}‏ مبالغة، والمراد بنو آدم لأنهم المجازون، وقيل المراد الجن والإنس، وقيل كل ما دب على الأرض من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم وبسببه، والضمير في ‏{‏ظهرها‏}‏ عائد على ‏{‏الأرض‏}‏ المتقدم ذكرها، ولو لم يتقدم لها ذكر لأمكن في هذا الموضع لبيان الأمر ولكانت ك ‏{‏تورات بالحجاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 32‏]‏ ونحوها، و«الأجل المسمى» القيامة، وقوله ‏{‏فإن الله كان بعباده بصيراً‏}‏ توعد وفيه للمتقين وعد‏.‏

سورة يس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أمال حمزة والكسائي الياء في ‏{‏يس‏}‏ غير مفرطين والجمهور يفتحونها ونافع وسط في ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يس‏}‏ يدخل فيه من الأقوال ما تقدم في الحروف المقطعة في أوائل السور، ويختص هذا بأقوال، منها أن سعيد بن جبير قال‏:‏ إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله ‏{‏إنك لمن المرسلين‏}‏ وقال السيد الحميري‏:‏

يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة *** على المودة إلا آل ياسينا

وقال ابن عباس‏:‏ معناه يا إنسان بلسان الحبشة، وقال أيضاً ابن عباس في كتاب الثعلبي‏:‏ هو بلغة طيِّئ وذلك أنهم يقولون يا إيسان بمعنى إنسان ويجمعونه على أياسين فهذا منه، وقالت فرقة‏:‏ «يا» حرف نداء، والسين مقامة مقام الإنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ومن قال إنه اسم من أسماء السورة أو من أسماء القرآن فذلك من الأقوال المشتركة في أوائل جميع السور، وقرأ جمهور القراء ‏{‏يس‏}‏ و‏{‏نون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏ بسكون النون وإظهارها وإن كانت النون ساكنة تخفى مع الحروف فإنما هذا مع الانفصال، وإن حق هذه الحروف المقطعة في الأوائل أن تظهر، وقرأ عاصم وابن عامر بخلاف عنهما ‏{‏يس والقرآن‏}‏ بإدغام النون في الواو على عرف الاتصال، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف بنصب النون، وهي قراءة عيسى بن عمرو رواها عن الغنوي، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏يس‏}‏ قسم، قال أبو حاتم‏:‏ قياس هذا القول نصب النون كما تقول الله لأفعلن كذا، وقرأ الكلبي بضمها وقال هي بلغة طيئ «يا إنسان»، وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق بخلاف بكسرها وهذه الوجوه الثلاثة هي للالتقاء، وقال أبو الفتح ويحتمل الرفع أن يكون اجتزاء بالسين من «يا إنسان»، وقال الزجاج النصب كأنه قال اتل يس وهو مذهب سيبويه على أنه اسم للسورة، و‏{‏يس‏}‏ مشبهة الجملة من الكلام فلذلك عدت آية بخلاف ‏{‏طس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 14‏]‏ ولم ينصرف ‏{‏يس‏}‏ للعجمة والتعريف، و‏{‏الحكيم‏}‏ المحكم، فيكون فعيل بمعنى مفعل أي أحكم في مواعظه وأوامره ونواهيه، ويحتمل أن يكون ‏{‏الحكيم‏}‏ بناء فاعل أي ذو الحكمة، وقوله ‏{‏على صراط مستقيم‏}‏ يجوز أن تكون جملة في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنها في موضع حال من ‏{‏المرسلين‏}‏، و«الصراط» الطريق، والمعنى على طريق وهدى ومهيع رشاد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر «تنزيلُ» بالرفع على خبر الابتداء وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تنزيلَ» بالنصب على المصدر، واختلف عن عاصم، وهي قراءة طلحة والأشهب وعيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

اختلف المفسرون في قوله ‏{‏ما أنذر‏}‏، فقال عكرمة ‏{‏ما‏}‏ بمعنى الذي، والتقدير الشيء الذي أنذره الآباء من النار والعذاب، ويحتمل أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية على هذا القول من أن الآباء أنذروا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ف «الآباء» على هذا كله هم الأقدمون على مر الدهور، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم‏}‏، مع هذا التأويل بمعنى فإنهم دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة، وقال قتادة ‏{‏ما‏}‏ نافية أي أن آباءهم لم ينذروا، فالآباء على هذا هم القريبون منهم، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 44‏]‏، وهذه النذارة المنفية هي نذارة المباشرة والأمر والنهي، وإلا فدعوة الله تعالى من الأرض لم تنقطع قط، وقوله ‏{‏فهم‏}‏ على هذا، الفاء منه واصلة بين الجملتين، ورابطة للثانية بالأولى، و‏{‏حق القول‏}‏ معناه وجب العذاب وسبق القضاء به هذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر وغيرهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً‏}‏ الآية قال مكي‏:‏ قيل هي حقيقة في أحوال الآخرة وإذا دخلوا النار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغشيناهم فهم لا يبصرون‏}‏ يضعف هذا القول لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله، وقال الضحاك‏:‏ معناه متعناهم من النفقة في سبيل الله، كما قال تعالى ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، وقال ابن عباس وابن إسحاق‏:‏ الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا محمداً صلى الله عليه وسلم بسوء، فجعل الله تعالى هذا مثالاً لهم في كفه إياهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ومنعهم من إذايته حين بيتوه، قال عكرمة‏:‏ نزلت هذه الآية حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم فمنعه الله تعالى منه، الحديث، وفي غير ذلك من المواطن وقالت فرقة‏:‏ الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى آباءهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا أرجح الأقوال لأنه تعالى لما ذكر أنهم ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ بما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغللين، والغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة هذا معنى التغليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهي‏}‏ يحتمل أن يعود على «الأغلال» أي هي عريضة تبلغ بحرفها ‏{‏الأذقان‏}‏، والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء وذلك هو «الإقماح» وهو نحو الإقناع في الهيئة ونحوه ما يفعله الإنسان والحيوان عند شرب الماء البارد وعند الملوحات والحموضة القوية ونحوه، ويحتمل وهو قول الطبري أن تعود «هي» على الأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، وروي أن في مصحف ابن مسعود وأبيّ «إنا جعلنا في أيمانهم»، وفي بضعها «في أيديهم»، وقد ذكرنا معنى «الإقماح»، وقال قتادة‏:‏ المقمح الرافع رأسه، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏مقمحون‏}‏ مضللون عن كل خير، وأرى الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقها ورفع رأسه، وقرأ الجمهور «سُداً» بضم السين في الموضعين، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير «سَداً» بفتح السين، وقال أبو علي‏:‏ قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم، وقال عكرمة‏:‏ ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والسد ما سد وحال، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب‏:‏ طلع سد مع انتشار الطفل، أي سحاب سد الأفق، ومنه قولهم‏:‏ جراد سد، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم» بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأعشيناهم» بالعين غير منقوطة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم والمعنى ‏{‏فهم لا يبصرون‏}‏ رشداً ولا هدى، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم» بتاء دون ألف وبالغين منقوطة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم مضمنها تسلية عنهم أي أنهم قد حتم عليهم بالكفر فسواء إنذارك وتركه، والألف في قوله في ‏{‏أأنذرتهم‏}‏ ألف التسوية لأنها ليست باستفهام بل المستفهم والمستفهَم مستويان في علم ذلك، وقرأ الجمهور «آنذرتهم» بالمد، وقرأ ابن محيصن والزهري «أنذرتهم» بهمزة واحدة على الخبر، ‏{‏وسواء‏}‏ رفع بالابتداء، وقوله ‏{‏أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ جملة من فعلين متعادلين تقدر تقدير فعل واحد هو خبر الابتداء، كأنه قال وسواء عليهم جميع فعلك ففسر هذا الجميع ب ‏{‏أنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏، ومثله قولهم‏:‏ سواء عندي أقمت أم عقدت، هكذا ذكر أبو علي في تحقيق الخبر في مثل هذا إذ من الأصول أن الابتداء هو الخبر والخبر هو الابتداء، وقوله ‏{‏إنما تنذر‏}‏ ليس على جهة الحصر ب ‏{‏إنما‏}‏ بل على تجهة تخصيص من ينفعه الإنذار، و«اتباع الذكر» هو العمل بما في كتاب الله تعالى والاقتداء به، قال قتادة‏:‏ ‏{‏الذكر‏}‏ القرآن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ أي بالخلوات عند مغيب الإنسان عن عيون البشر، ثم قال تعالى ‏{‏فبشره‏}‏ فوحد الضمير مراعاة للفظ من، و«الأجر الكريم» هو كل ما يأخذه الأجير مقترناً بحمد على الأحسن وتكرمة، وكذلك هي للمؤمنين الجنة، ثم أخبر تعالى بإحيائه الموتى رداً على الكفرة، ثم توعدهم بذكره كتب الآثار، وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان، فيدخل فيما قدم ويدخل في آثاره لكنه تعالى ذكر الأمر من الجهتين ولينبه على الآثار التي تبقى ويذكر ما قدم الإنسان من خير أو شر، وإلا فذلك كله داخل فيما قدم ابن آدم، وقال قتادة ‏{‏ما قدموا‏}‏ معناه من عمل، وقاله ابن زيد ومجاهد وقد يبقى للمرء ما يستن به بعد فيؤجر به أو يأثم، ونظير هذه الآية ‏{‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 5‏]‏، وقوله ‏{‏يُنَبَّأُ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏، وقرأت فرقة «وآثارهم» بالنصب، وقرأ مسروق «وآثارهم» بالرفع، وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري إن هذه الآية نزلت في بني سلمة حين أرادوا النقلة إلى جانب المسجد، وقد بينا ذلك في أول السورة، وقال ثابت البناني‏:‏ مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت فحبسني فلما انقضت الصلاة قال لي‏:‏ مشيت مع زيد بن ثابت إلى الصلاة، فأسرعت في مشيي فحبسني فلما انقضت الصلاة قال‏:‏ مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فأسرعت في مشيي فحبسني، فلما انقضت الصلاة قال لي‏:‏ يا زيد أما علمت أن الآثار تكتب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا احتجاج بالآية، وقال مجاهد وقتادة والحسن‏:‏ والآثار في هذه الآية الخطا، وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال‏:‏ الآثار هي الخطا إلى الجمعة، وقيل الآثار ما يبقى من ذكر العمل فيقتدى به فيكون للعامل أجر من عمل بسنته من بعده، وكذلك الوزر في سنن الشر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلَّ شيء‏}‏ نصب بفعل مضمر يدل عليه ‏{‏أحصيناه‏}‏ كأنه قال وأحصينا كل شيء أحصيناه، و«الإمام» الكتاب المقتدى به الذي هو حجة، قال مجاهد وقتادة وابن زيد‏:‏ أراد اللوح المحفوظ، وقالت فرقة‏:‏ أراد صحف الأعمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الضرب للمثل مأخوذ من الضريب الذي هو الشبه في النوع، كما تقول هذا ضرب هذا، واختلف هل يتعدى فعل ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية ‏{‏مثلاً‏}‏ و‏{‏أصحاب‏}‏ مفعولين لقوله ‏{‏اضرب‏}‏، ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله ‏{‏مثلاً‏}‏ وجعل ‏{‏أصحاب‏}‏ بدلاً منه، ويجوز أن يكون المفعول ‏{‏أصحاب‏}‏ ويكون قوله ‏{‏مثلاً‏}‏ نصب على الحال، أي في حال تمثيل منك، و‏{‏القرية‏}‏ على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية، واختلف المفسرون في «المرسلين» فقال قتادة وغيره‏:‏ كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه، فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى انطاكية، وقالت فرقة‏:‏ هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا يرجحه قول الكفرة ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئاً يطول والصحة فيه غير متيقنة فاختصرته، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا، وقرأ جمهور القراء «فعزّزنا» بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا، وبهذا فسر مجاهد وغيره، وقرأ عاصم في رواية المفضل عن أبي بكر «فعزَزنا» بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم، وفي حرف ابن مسعود «فعززنا بالثالث» بألف ولام، وهذ الأمة أنكرت النبوءة بقولها‏:‏ ‏{‏وما أنزل الرحمن من شيء‏}‏، وراجعتهم الرسل بأن يردوا العلم إلى الله تعالى وقنعوا بعلمه وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قال بعض المتأولين‏:‏ إن أهل هذه القرية أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم المرسلين فلذلك ‏{‏قالوا إنا تطيرنا بكم‏}‏، وقال مقاتل‏:‏ احتبس عنهم المطر فلذلك قالوه، ومعناه تشاءمنا بكم، مأخوذ من الحكم بالطير، وهو معنى متداول في الأمم وقلما يستعمل تطيرت إلا في الشؤم، وأما حكم الطير عند مستعمليه ففي التيمن وفي الشؤم، والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو ما خوطب به موسى، وقال قتادة‏:‏ قالوا إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، و‏{‏لنرجمنكم‏}‏ معناه بالحجارة، قاله قتادة، وقولهم عليهم السلام، ‏{‏طائركم معكم‏}‏، معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم، أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم، وبهذا فسر الناس، وسمي الحظ والنصيب طائراً استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر، وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية‏:‏ فطار لنا، حين اقتسم المهاجرون، عثمان بن مظعون، ويقول الفقهاء‏:‏ طار لفلان في المحاصة كذا وكذا، وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد «طيركم معكم»، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر «أإن ذكرتم» بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون، وقرأ نافع وأبوعمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء «أين ذكرتم»، وقرأ الماجشون «أن ذكرتم» بفتح الألف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن ذكرتم» بكسر الألف، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش «أأن ذكرتم» بهمزتين مفتوحتين وشاهده قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

أأن كنت داود أحوى مرجلاً *** فلست براع لابن عمك محرما

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش «أينْ ذكَرتم» بسكون الياء وتخفيف الكاف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهي «أين» المقولة في الظرف، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة والحسن في تخفيف الكاف فقط، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي، وأخبر تعالى ذكره عن حال رجل ‏{‏جاء من أقصى المدينة‏}‏ سمع من المرسلين وفهم عن الله تعالى فجاء يسعى على قدميه وسمع قولهم فلما فهمه روي أنه تعقب أمرهم وسبرهم بأن قال لهم‏:‏ أتطلبون على دعوتكم هذه أجراً‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم و«الإيمان بهم» إذ هو الحق ثم احتج عليهم بقوله ‏{‏اتبعوا من لا يسألكم أجراً‏}‏ وهم على هدى من الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الآية حاكمة بنقص من يأخذ على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة ونحوها، فإنها كالتبليغ لمن بعث بخلاف ما لا يلزمه كالإمارة والقضاء، وقد ارتزق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروي عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجاراً وكان فيما قال وهب بن منبه قد تجذم، فقيل‏:‏ كان في غار يعبد ربه، وقال ابن أبي ليلى‏:‏ سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة علي بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون، وذكر الناس من أسماء الرسل صادق وصدوق وشلوم وغير هذا والصحة معدومة فاختصرته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 27‏]‏

‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور «وماليَ» بفتح الياء، وقرأ الأعمش وحمزة بسكون الياء، وقد تقدم مثل هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما لي‏}‏ تقرير لهم على جهة التوبيخ في هذا الأمر يشهد العقل بصحته أن من فطر واخترع وأخرج من العدم إلى الوجود فهو الذي يستحق أن يعبد، ثم أخبرهم بأنهم يحشرون إليه يوم القيامة، ثم وقفهم أيضاً على جهة التوبيخ على اتخاذ الآلهة من دون الله تعالى، وهي لا ترد عن الإنسان المقادير التي يريدها الله تعالى به لا بقوة منها ولا بشفاعة، وقرأ طلحة السمان وعيسى الهمداني «أن يردنَي» بياء مفتوحة، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو، ثم صدع رضي الله تعالى عنه بإيمانه وأعلن فقال ‏{‏إني آمنت بربكم فاسمعون‏}‏ واختلف المفسرون في قوله ‏{‏فاسمعون‏}‏ فقال ابن عباس وكعب ووهب‏:‏ خاطب بها قومه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ على جهة المبالغة والتنبيه، وقيل خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ عندهم، وقرأ الجمهور «فاسمعونِ» بكسر النون على نية الياء بعدها وروى أبو بكر عن عاصم «فاسمعونَ» بفتح النون قال أبو حاتم‏:‏ هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر، فإما حذف النون وإما كسرها على نية الياء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات، وهو أنهم قتلوه، واختلف كيف، فقال قتادة وغيره‏:‏ رجموه بالحجارة، وقال عبد الله بن مسعود، مشوا عليه بأقدامهم حتى خرج قصبه من دبره، فقيل له عند موته ‏{‏ادخل الجنة‏}‏ وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها، وتحقق أنه من ساكنيها برؤيته ما أقر عينه، فلام تحصل له ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك، وقيل أراد بذلك الإشفاق والتنصح لهم، أي لو علموا بذلك لآمنوا بالله تعالى، وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويحزنهم ذلك، وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال خيراً في بلد غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ولا سيما في الكرامات، ونحو من ذلك قول الشاعر‏:‏

والعز مطلوب وملتمس *** وأحبه ما نيل في الوطن

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «نصح قومه حياً وميتاً»، وقال قتادة بن دعامة‏:‏ نصحهم على حالة الغضب والرضى، وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحاً للناس، و«ما» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما‏}‏ يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي‏:‏ ويجوز أن يكون استفهاماً ثم ضعفه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

هذه مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها توعد لقريش إذ هذا هو المروع لهم من المثال، أي ينزل بهم من عذاب الله ما نزل بقوم حبيب النجار، فنفى عز وجل، أي أنه ما أنزل على قوم هذا الرجل ‏{‏من جند من السماء‏}‏، فقال مجاهد‏:‏ أراد أنه لم يرسل رسولاً ولا استعتبهم، قال ابن مسعود‏:‏ أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك بل كانت صيحة واحدة لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك، قال قتادة‏:‏ والله ما عاتب الله تعالى قومه بعد قتله حتى أهلكهم، واختلف المتأولون في قوله ‏{‏وما كنا منزلين‏}‏، فقالت فرقة ‏{‏ما كنا منزلين‏}‏، ‏{‏ما‏}‏ نافية وهذا يجري مع التأويل الثاني في قوله، ‏{‏ما أنزلنا من جند‏}‏، وقالت فرقة ‏{‏وما‏}‏ عطف على ‏{‏جند‏}‏ أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك، وقرأ الجمهور «إلا صيحةً» بالنصب على خبر «كان»، أي ما كان عذابهم إلا صحية واحدة، وقرأ أبو جعفر ومعاذ بن الحارث «إلا صيحةٌ» بالرفع، وضعفها أبو حاتم، والوجه فيها أنها ليست «كان» التي تطلب الاسم والخبر، وإنما التقدير ما وقعت أو حدثت إلا صحية واحدة، وقرأ ابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود إلا زقية «وهي الصيحة» من الديك ونحوه من الطير، و‏{‏خامدون‏}‏ ساكنون موتى لاطئون بالأرض شبهوا بالرماد الذي خمدت ناره وطفئت، وقوله ‏{‏يا حسرة‏}‏ نداء لها على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه، وهو معنى قويم في نفسه، وهو نداء منكور على هذا القراءة، قال الطبري‏:‏ المعنى «يا حسرة العباد على أنفسهم»، وذكر أنها في بعض القراءات كذلك، وقال ابن عباس‏:‏ «يا ويلا العباد»، وقرأ ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين ومجاهد وأبي بن كعب «يا حسرةَ العبادِ»، بإضافتها، وقول ابن عباس حسن مع قراءته، وتأويل الطبري في ذلك القراءة الأولى ليس بالبين وإنما يتجه أن يكون المعنى تلهفاً على العباد، كأن الحال يقتضيه وطباع كل بشر توجب عند سماعه حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله تعالى أن يشفق ويتحسر على العبادة، وقال أبو العالية‏:‏ المراد ب ‏{‏العباد‏}‏ الرسل الثلاثة، فكأن هذا التحسر هو من الكفار حين رأوا عذاب الله تلهفوا على ما فاتهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم‏}‏ الآية، يدافع هذا التأويل، والحسرة التلهفات التي تترك صاحبها حسيراً، وقرأ الأعرج بن جندب وأبو الزناد «يا حسرة» بالوقف على الهاء وذلك للحرص على بيان معنى التحسر وتقريره للنفس، والنطق بالهاء في مثل هذا أبلغ في التشفيق وهز النفس كقولهم‏:‏ أوه ونحوه، وقوله ‏{‏ما يأتيهم من رسول‏}‏ الآية، تمثيل لفعل قريش ثم عناهم بقوله ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون‏}‏، و‏{‏كم‏}‏ هنا خبرية، و‏{‏أنهم‏}‏ بدل منها، والرؤية رؤية البصر، وفي قراءة ابن مسعود «أو لم يروا من أهلكنا»، وقرأ جمهور القراء «أنهم» بفتح الألف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إنهم» بكسرها، وقرأ جمهور الناس «لما جميع» بتخفيف الميم وذلك على زيادة «ما» للتأكيد، والمعنى لجميع، وقرأ الحسن وابن جبير عاصم «لمّا» بشد الميم، قالوا هي منزلة منزلة «إلا»، وقيل المراد «لمما» حذفت الميم الواحدة وفيها ضعف، وفي حرف أبيّ و«إن منهم إلا جميع»، و‏{‏محضرون‏}‏ قال قتادة‏:‏ محشرون يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 36‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ‏(‏34‏)‏ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ‏(‏35‏)‏ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وآية‏}‏ معناه علامة على الحشر وبعث الأجساد، والضمير في ‏{‏لهم‏}‏ يراد به كفار قريش، وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر، «الميِّتة» بكسر الياء وشدها، وقرأ أبو عمرو وعاصم «الميْتة» بسكون الياء، وإحياؤها بالمطر، وقرأ جمهور الناس «من ثَمَره» بفتح الثاء والميم، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «من ثُمُرة» بضمهما، وقرأ الأعمش «من ثُمْره» بضم الثاء وسكون الميم، والضمير في ‏{‏ثمره‏}‏ قالت فرقة هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله ‏{‏وفجرنا فيها من العيون‏}‏ لأن التقدير ماء، وقالت فرقة هو عائد على جميع ما تقدم مجملاً، كأنه قال‏:‏ من ثمر ما ذكرنا، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو من باب أن يذكر الإنسان شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه، كما قال الشاعر، وهو الأزرق بن طرفة بن العمرد القارضي الباهلي‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

رماني بذنب كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطويّ رماني

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا وجه في الآية ضعيف، و‏{‏ما‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما عملته أيديهم‏}‏ قال الطبري‏:‏ هي اسم معطوف على الثمر أي يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه، وقالت فرقة‏:‏ هي مصدرية وقيل هي نافية، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهي شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم، وقرأ جمهور الناس «عملته» بالهاء الضمير، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى «عملت» بغير ضمير، ثم نزه نفسه تعالى تنزيهاً مطلقاً في كل ما يلحد به ملحد أو يشرك مشرك، و‏{‏الأزواج‏}‏ الأنواع من جميع الأشياء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما لا يعلمون‏}‏ نظير قوله ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 8‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذه الآيات جعلها الله عز وجل أدلة على القدرة ووجوب الألوهية له، و‏{‏نسلخ‏}‏ معناه نكشط ونقشر، فهي استعارة، و‏{‏مظلمون‏}‏ داخلون في الظلام، واستدل قوم من هذه الآية على أن الليل أصل والنهار فرع طارٍ عليه، وفي ذلك نظر، و«مستقر الشمس» على ما روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي ذؤيب «بين يدي العرش تمجد فيه كل ليلة بعد غروبها»، وفي حديث آخر «أنها تغرب في عين حمئة ولها ثم وجبة عظيمة»، وقالت فرقة‏:‏ مستقرها هو في يوم القيامة حين تكون فهي تجري لذلك المستقر، وقالت فرقة‏:‏ مستقرها كناية عن غيوبها لأنها تجري كل وقت إلى حد محدود تغرب فيه، وقيل‏:‏ مستقرها آخر مطالعها في المنقلبين لأنهما نهاية مطالعها فإذا استقر وصولها كرت راجعة وإلا فهي لا تستقر عن حركتها طرفة عين، ونحا إلى هذا ابن قتيبة، وقالت فرقة‏:‏ مستقرها وقوفها عند الزوال في كل يوم، ودليل استقرارها وقوف ظلال الأشياء حينئذ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح وأبو جعفر ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، «والشمس تجري لا مستقر لها»، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والحسن والأعرج «والقمرُ» بالرفع عطفاً على قوله ‏{‏وآية لهم الليل‏}‏ عطف جملة على جملة ويصح وجه آخر وهو أن يكون قوله ‏{‏وآية‏}‏ ابتداء وخبره محذوف، كأنه قال‏:‏ في الوجود وفي المشاهدة، ثم فسر ذلك بجملتين من ابتداء وخبر وابتداء وخبر، الأولى منهما ‏{‏الليل نسلخ منه النهار‏}‏، والثانية ‏{‏والقمر قدرناه منازل‏}‏، وقرأ الباقون «والقمرَ قدرناه» بنصب «القمر» على إضمار فعل يفسره ‏{‏قدرناه‏}‏ وهي قراءة أبي جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه، و‏{‏منازلَ‏}‏ نصب على الظرف، وهذه المنازل المعروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كل ليلة أقل من واحدة فيما يزعمون، وعودته هي استهلاله رقيقاً، وحينئذ يشبه «العرجون» وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التمر فإنه ينحني ويصفر إذا قدم ويجيء أشبه شيء بالهلال قاله الحسن بن أبي الحسن، والوجود تشهد به، وقرأ سليمان التيمي «كالعِرجون» بكسر العين، و‏{‏القديم‏}‏ معناه العتيق الذي قد مر عليه زمن طويل، و‏{‏ينبغي‏}‏ هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه لأنها لا قدرة لها على غير ذلك، وقرأ الجمهور «سابقُ النهارِ» بالإضافة، وقرأ عبادة «سابقُ النهار» دون تنوين في القاف، وبنصب «النهارَ» ذكره الزهراوي وقال‏:‏ حذف التنوين تخفيفاً، و«الفلك» فيما روي عن ابن عباس متحرك مستدير كفلكة المغزل من الكواكب، و‏{‏يسبحون‏}‏ معناه يجرون ويعومون، قال مكي‏:‏ لما أسند إليها فعل من يعقل جمعت الواو والنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏آية‏}‏ معناه علامة ودليل، ورفعها بالابتداء وخبره في قوله ‏{‏لهم‏}‏، و‏{‏أنا‏}‏ بدل من ‏{‏آية‏}‏ وفيه نظر، ويجوز أن تكون «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب، والحمل منع الشيء أن يذهب سفلاً، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش «ذرياتهم» بالجمع، وقرأ الباقون «ذريتهم» بالإفراد، وهي قراءة طليحة وعيسى، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس، كأنه قال ذريات جنسهم أو نوعهم هذا أصح ما اتجه في هذا، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا الذرية تقع على الآباء وهذا لا يعرف لغة، وأما معنى الآية فيحتمل تأويلين‏:‏ أحدهما قاله ابن عباس وجماعة، وهو أن يريد ب «الذريات المحمولين» أصحاب نوح في السفينة، ويريد بقوله ‏{‏من مثله‏}‏ السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها أراد الله تعالى بقوله ‏{‏وإن نشأ نغرقهم‏}‏، والتأويل الثاني قاله مجاهد والسدي وروي عن ابن عباس أيضاً هو أن يريد بقوله ‏{‏أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون‏}‏ السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ويريد بقوله ‏{‏وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏}‏ الإبل وسائر ما يركب فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط، ويعود قوله ‏{‏وإن نشأ نغرقهم‏}‏ على السفن الموجودة في الناس، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح في سفينة وجعل ‏{‏من مثله‏}‏ في الإبل فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن نشأ نغرقهم‏}‏ فتأمله، و‏{‏الفلك‏}‏ جمع على وزنه هو الإفراد معناه الموفر، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من مثله‏}‏، يتجه على أحد التأويلين‏:‏ أن تكون للتبعيض، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس فانظره، ويقال الإبل مراكب البر، و«الصريخ» هنا بناء الفاعل بمعنى المصرخ، وذلك أنك تقول صارخ بمعنى مستغيث، ومصرخ بمعنى مغيث، ويجيء ‏{‏صريخ‏}‏ مرة بمعنى هذا ومرة بمعنى هذا لأن فعيلاً من أبنية اسم الفاعل، فمرة يجيء من أصرخ ومرة يجيء من صرخ إذا استغاث، وقوله ‏{‏إلا رحمة‏}‏ قال الكسائي نصب ‏{‏رحمةً‏}‏ على الاستثناء كأنه قال إلا أن يرحمهم رحمة، وقال الزجاج‏:‏ نصب ‏{‏رحمة‏}‏ على المفعول من أجله كأنه قال‏:‏ إلا لأجل رحمتنا إياهم، و‏{‏متاعاً‏}‏ عطف على ‏{‏رحمة‏}‏، وقوله ‏{‏إلى حين‏}‏، يريد إلى آجالهم المضروبة لهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والكلام تام في قوله ‏{‏وإن نشأ نغرقهم‏}‏ ‏{‏فلا صريخ لهم‏}‏ استئناف إخبار عن السائرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين فهم بهذه لا نجاة لهم إلا برحمة الله وليس قوله ‏{‏فلا صريخ لهم‏}‏ مربوطاً بالمغرقين، وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله، ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ الآية، وما بين أيديهم قال مقاتل وقتادة، هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن وما خلفهم هو عذاب الآخرة الذي يأتي من بعدهم في الزمن وهذا هو النظر، وقال الحسن‏:‏ خوفوا بما مضى من ذنوبهم وبما يأتي منها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء، ولم يعتبر وجود الأشياء في الزمن، وهذا النظر يكسره عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 46‏]‏، وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن فتأمله، وجواب ‏{‏إذا‏}‏ في هذه الآية محذوف تقديره أعرضوا يفسره قوله بعد ذلك ‏{‏إلا كانوا عنها معرضين‏}‏، و«الآيات» العلامات والدلائل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

الضمير في قوله ‏{‏لهم‏}‏ لقريش، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم وكان الأمر بمكة أولاً فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله، فقالوا عند ذلك ‏{‏أنطعم من لو يشاء الله أطعمه‏}‏ قال الرماني‏:‏ ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين وقالت فرقة‏:‏ بل سبب الآية أن قريشاً شحت بسبب أزمة على المساكين جميعاً، مؤمن وغير مؤمن وندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول، وقولهم يحتمل معنيين من التأويل‏:‏ أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب، فقد روي أن أعرابياً كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال‏:‏ أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله، فيخرج قول قريش على هذا المعنى كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه، ومن أمثالهم «كن مع الله كالمدبر»، والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلى الله عليه وسلم إن ثم إلهاً هو الرزاق فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كما يدعي إنسان أنه غني ثم يحتاج إلى معونتك في مال فتقول له على جهة الاحتجاج والهزء به أتطلب معونتي وأنت غني أي على قولك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال مبين‏}‏ يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين، أي في أمركم لنا في نفقة أموالنا وفي غير ذلك من دينكم، ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفر استئناف وزجرهم بهذا، ثم حكى عنهم على جهة التقرير عليهم قولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ أي متى يوم القيامة الذي تزعم، وقيل أرادوا متى هذا العذاب الذي تهددنا به وسموا ذلك وعداً من حيث قيدته قرائن الكلام أنه في شر والوعد متى ورد مطلقاً فهو في خير وإذا قيدته بقرينة الشر استعمل فيه، والوعيد دائماً إنما هو في الشر، و‏{‏ينظرون‏}‏ معناه ينتظرون، و‏{‏ما‏}‏ نافية، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة والنفخة الأولى في الصور رواه عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة أن بعدها نفخة الصعق ثم نفخة الحشر وهي التي تدوم، فما لها من فواق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن القسطنطين المكي «يَخَصِّمون» بفتح الياء والخاء وشد الصاد المكسورة، وأصلها يختصمون نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء الساكنة في الصاد، وقرأ نافع وأبو عمرو أيضاً «يَخْصِّمون» بفتح الياء وسكون الخاء وشد الصاد المكسورة وفي هذه القراءة جمع بين الساكنين ولكنه جمع ليس بجمع محض ووجهها أبو علي، وأصلها يختصمون حذفت حركة التاء دون نقل ثم أدغمت في الصاد، وقرأ عاصم والكسائي وابن عامر ونافع أيضاً والحسن وأبو عمرو بخلاف عنه «يَخِصِّمون» بفتح الياء وكسر الخاء وشد الصاد المكسورة أصلها يختصمون عللت كالتي قبلها، ثم كسرت للالتقاء، وقرأت فرقة «يِخِصِّمون» بكسر الياء والخاء وشد الصاد المكسورة عللت كالتي قبلها ثم أتبعت كسرة الخاء كسرة الياء، وفي مصحف أبي بن كعب «يختصمون» ومعنى هذه القراءات كلها أنهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ويتدافعون في شؤونهم، وقرأ حمزة «يخصمون» وهذه تحتمل معنيين أحدهما المذكور في القراءات أي يخصم بعضهم بعضاً في شؤونهم والمعنى الثاني يخصمون أهل الحق في زعمهم وظنهم، كأنه قال تأخذهم الصيحة وهم يظنون بأنفسهم أنهم قد خصموا وغللوا لأنك تقول خاصمت فلاناً فخصمته إذا غلبته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يستطيعون توصية‏}‏ عبارة عن إعجال الحال، والتوصية مصدر من وصى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏ يحتمل ثلاث تأويلات‏:‏ أحدها ولا يرجع أحد إلى منزله وأهله لإعجال الأمر بل تفيض نفسه حيثما أخذته الصيحة، والثاني معناه ‏{‏ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏ قولاً وهذا أبلغ في الاستعجال وخص الأهل بالذكر لأن القول معهم في ذلك الوقت أهم على الإنسان من الأجنبيين وأوكد في نفوس البشر، والثالث تقديره ‏{‏ولا إلى أهلهم يرجعون‏}‏ أبداً، فخرج هذا عن معنى وصف الاستعجال إلى معنى ذكر انقطاعهم وانبتارهم من دنياهم، وقرأ الجمهور «يَرجِعون» بفتح الياء وكسر الجيم، وقرأ ابن محيصن بضم الياء وفتح الجيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

هذه نفخة البعث، و‏{‏الصور‏}‏ القرن في قول جماعة المفسرين وبذلك تواترت الأحاديث، وذهب أبو عبيدة إلى أن ‏{‏الصور‏}‏ جمع صورة خرج مخرج بسر وبسرة وكذلك قال سورة البناء جمعها سور، والمعنى عنده وعند من قال بقوله نفخ في صور بني آدم فعادوا أحياء، و‏{‏الأجداث‏}‏ القبور، وقرأ الأعرج «في الصوَر» بفتح الواو جمع صورة، و‏{‏ينسلون‏}‏ معناه يمشون بسرعة، والنسلان مشية الذئب، ومنه قول الشاعر‏:‏

عسلان الذيب أمسى قارباً *** برد الليل عليه فنسل

وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ينسلون‏}‏ يخرجون، وقرأ جمهور الناس «ينسِلون» بكسر السين، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو أيضاً «ينسُلون» بضمها، ونداؤهم الويل بمعنى هذا وقتك وأوان حضورك وهو منادى مضاف، ويحتمل أن يكون نصب الويل على المصدر والمنادى محذوف، كأنهم قالوا يا قومنا ويلنا، وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا» بتاء التأنيث، وقرأ الجمهور «مَن بعثنا» بفتح الميم على معنى الاستفهام، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ «مِن بْعثِنا» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر، وفي قراءة ابن مسعود، «من أهبنا من مرقدنا» أي من نبهنا، وفي قراءة أبي بن كعب «من هبنا»، قال أبو الفتح ولم أرَ لها في اللغة أصلاً ولا مر بنا مهبوب، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه، وقولهم ‏{‏من مرقدنا‏}‏ يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة، ويروى عن أبي بن كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في قولهم ‏{‏من مرقدنا‏}‏ أنها استعارة وتشبيه، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة، وفي كتاب الثعلبي‏:‏ أنهم قالوا ‏{‏من مرقدنا‏}‏ لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم، وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد، ثم استأنف بقوله، ‏{‏ما وعد الرحمن‏}‏ ويضمر الخبر حق أو نحوه، وقال الجمهور‏:‏ ابتداء الكلام ‏{‏هذا ما وعد الرحمن‏}‏، واختلف في هذه المقالة من قالها، فقال ابن زيد‏:‏ هي من قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا ‏{‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ وقالت فرقة‏:‏ ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف، وقال الفراء‏:‏ هو من قول الملائكة، وقال قتادة ومجاهد‏:‏ هو من قول المؤمنين للكفرة على جهة التقريع، ثم أخبر تعالى أن أمر القيامة والبعث من القبور ما هو ‏{‏إلا صيحة واحدة‏}‏ فإذا الجميع حاضر محشور، وقرأت فرقة «إلا صيحةً» بالنصب، وقرأ فرقة فرقة «إلا صيحةٌ» بالرفع، وقد تقدم إعراب نظيرها، وقوله ‏{‏فاليوم‏}‏ نصب على الظرف، ويريد يوم القيامة، والحشر المذكور وهذه مخاطبة يحتمل أن تكون لجميع العالم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

هذا إخبار من الله عز وجل عن حال أهل الجنة بعقب ذكر أهوال يوم القيامة وحالة الكفار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وطلحة وخالد بن إلياس «في شُغْل» بضم الشين وسكون الغين، وقرأ الباقون «في شُغُل» بالضم فيهما وهي قراءة أهل المدينة والكوفة، وقرأ مجاهد وأبو عمرو أيضاً بالفتح فيهما، وقرأ ابن هبيرة على المنبر «في شَغْل» بفتح الشين وسكون الغين وهي كلها بمعنى واحد، واختلف الناس في تعيين هذا الشغل، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب‏:‏ في افتضاض الأبكار، وحكى النقاش عن ابن عباس سماع الأوتار، وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له، ولما كان النعيم نوعاً واحداً هو نعيم وحده فقال ‏{‏في شغل‏}‏ ولو اختلف لقال في أشغال، وحكى الثعلبي عن طاوس أنه قال‏:‏ لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به، قال الثعلبي‏:‏ وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام «أكثر أهل الجنة البله» فقال‏:‏ لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم، وقرأ جمهور الناس «فاكهون» معناه أصحاب فاكهة كما تقول لابن وتامر وشاحم ولاحم، وقرأ أبو رجاء ومجاهد ونافع أيضاً وأبو جعفر «فكهون» ومعناه طربون وفرحون مأخوذ من الفكاهة أي لا همّ لهم، وقرأ طلحة والأعمش وفرقة «فاكهين» جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله ‏{‏في شغل‏}‏ ونصب «فاكهين» على الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ ابتداء و‏{‏أزواجهم‏}‏ و‏{‏في ظلال‏}‏ خبره ويحتمل أن يكون ‏{‏هم‏}‏ بدلاً من قوله ‏{‏فاكهون‏}‏ ويكون قوله ‏{‏في ظلال‏}‏ في موضع الحال كأنه قال مستظلين، وقرأ جمهور القراء «في ظلال» وهو جمع ظل إذ الجنة لا شمس فيها وإنما هواؤها سجسج كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس، ويحتمل قوله ‏{‏في ظلال‏}‏ أن يكون جمع ظلة قال أبو علي كبرمة وبرام وغير ذلك، وقال منذر بن سعيد‏:‏ ‏{‏ظلال‏}‏ جمع ظلة بكسر الظاء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي لغة في ظلة، وقرأ حمزة والكسائي «في ظلل» وهي جمع ظلة وهي قراءة طلحة وعبد الله وأبي عبد الرحمن، وهذه عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل، وهي زينة، و‏{‏الأرائك‏}‏ السرر المفروشة، قال بعض الناس‏:‏ من شروطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة، وبذلك قيدها ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة، وقال بعضهم‏:‏ الأريكة السرير كان عليه حجلة أو لم يكن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم ما يدعون‏}‏ بمنزلة ما يتمنون قال أبو عبيدة‏:‏ العرب تقول‏:‏ ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي، وتقول‏:‏ فلان فيما ادعى أي فيما دعى به لأنه افتعل من دعا يدعو وأصل هذا يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين وحذفت الياء لاجتماعها مع الواو الساكنة فصار يدتعون قلبت التاء دالاً فأدغمت الدال فيها وخصت الدال بالبقاء دون التاء لأنها حرف جلد، والتاء حرف همس‏.‏

قال الرماني‏:‏ المعنى أن من ادعى شيئاً فهو له لأنهم قد هذبت طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ قيل‏:‏ هي صفة لما أي مسلم لهم وخالص، وقيل‏:‏ هو ابتداء، وقيل؛ هو خبر ابتداء، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعيسى الثقفي والغنوي «سلاماً» بالنصب على المصدر، وقرأ محمد بن كعب القرطبي «سلم» وهو بمعنى سلام، و‏{‏قولاً‏}‏ نصب على المصدر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامتازوا اليوم‏}‏ الآية فيه حذف تقديره ونقول للكفرة وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنة ‏{‏سلام‏}‏، ‏{‏وامتازوا‏}‏ معناه انفصلوا وانحازوا لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون، ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توقيفاً لهم وتوبيخاً على عهده إليهم ومخالفتهم عهده، وقرأ جمهور الناس «أعهَد» بفتح الهاء، وقرأ الهذيل وابن وثاب، «ألمِ إعهَد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهِد» بكسر الهاء، يقال عهد وعهد، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي «أنُ اعبدون» بضم النون من أن أتبعوا بها ضمة الدال واو الجماعة أيضاً، وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة «وأنِ اعبدون» بكسر النون على أصل الكسر للالتقاء، وقوله تعالى ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ إشارة إلى الشرائع، فمعنى هذا أن الله تعالى عهد إلى بني آدم وقت إخراج نسلهم من ظهره أن لا يعبدوا الشيطان وأن يعبدوا الله تعالى وقيل لهم هذه الشرائع موجودة وبعث تعالى آدم إلى ذريته ولم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والصراط الطريق، ويقال إنها دخيلة في كلام العرب وعربتها‏.‏